الطائــر والـجـمـجـمـة

الطائــر والـجـمـجـمـة

ستعير عنوان رواية ناظم محمد العبيدي (الطائر والجمجمة) للاستدلال على بؤرة التفاعلات الثانوية التي صدرت عنها مطبوعات أدب الاستنساخ (الفوتو كوبي) في مقابل ماكنة الإنتاج الطباعي الحكومي، خلال الفجوة المعروفة بفترة الحصار بين العامين 1991 و2003.

تفاعلت في هذه البؤرة رؤيا الحرب مع رؤيا السلام، وغادرها نسقان أحدهما شخصاني متوثب وصريح، والآخر ملتاع ومستتر، كل في سبيل. حلق طائر العبيدي بجناح النسق الثاني عالياً، ونأى بنفسه الملتاعة عن (جمجمة) التفاعلات الأرضية المنشطرة في اتجاهين. اختار العبيدي أن يلتحق بالأسراب الناجية من سخط الماكنة الطباعية الحكومية، ويحلق برؤياه على جعجعتها وقضقضتها. ولعل رواية (الطائر والجمجمة) المؤرخة بالعام2001 آخر ما تفتقت عنه بؤرة طباعة الاستنساخ وأسبقها التحاقاً بروايات قطيعة التغيير الفعلية. أضرب برواية ناظم العبيدي مثلاً على اتساع الفجوة التي انساقت نحوها تقاليد مئويتنا الأدبية بآلية المعارضة والتحديث التي ميزتها عند كل قطيعة تاريخية.

حدث خرق غير متوقع في جبهة الصراع الثقافي نفذت من خلاله تقاليد المئوية المعاقة، على نحو واسع ومفاجئ. أما وقد سيطرت مكننة الطباعة على عادات النسخ اليدوي وتوزيعه، ثم قضت على وسائل النشر الحرفية، فقد ظهر مؤلفون يتبارون في إحياء طرائق الطباعة الفردية ونسخ مؤلفاتهم بأيديهم على جهاز النسخ الضوئي، بما إنها وسيلتهم البديلة لسوق إنتاج الكتاب، وجزيرتهم المنعزلة في محيط التقشف والحصار. وهيأ التقليد البديل لمنتجي كتاب الاستنساخ أسلوباً لنشر مضامين الحداثة الأدبية، وتداولاً نقدياً غير مألوف في رواق المؤسسة الأكاديمية، يشتق سبيله بجرأة.

اكتسب النص المصوّر بجهاز الاستنساخ قوة المنشور الحزبي الدال على مضمون مضاد، ومظهر النفور من ظاهرة طباعية متفسخة، ما دام مؤلف النص هو نفسه الطباع الذي يسلك طريقة النشر الأخوية تحت الأرضية (Underground) متأثراً بأشرطة سينما الفيديو ومسرح الجيب ورسوم الجدران وتماثيل الصحراء وأغاني الروح. كان عمله نسخة من "رسائل القبو" المتكتمة على قسماتها إزاء الوجه المكفهر للرواق الأكاديمي والمعجم التفسيري الذي يستخدمه والسوق التي ترسمل خطابه. حمل كتاب الاستنساخ حمولة العسر الذي حملته نصوص الفترة المسرعة نحو الانهيار والتحول.

 

لم تختلف غرافيكيات الصفحة المصوّرة بجهاز الاستنساخ عن جماليات الصفحة التي طبعها (وليم بليك) على صفيحة معدنية أو حجرية محفورة بأشعاره ورسومه في أزمنة ما قبل الطباعة السطحية والالكترونية، ذلك أن الشطوب وبقع الحبر التي تشوه الصفحات المطبوعة على الآلة اليدوية قد تخرج على تجارب الطباعة الضوئية، ما يعكس كيفيات طباعية متماثلة بشكل أو آخر، هي كيفيات الجسد الذي يطبع النص، ويتدخل في إخراجه يدوياً بعمل عنيف أو رقيق على أية حال يكون عليها مؤلف النص.

 

إن الجسد علامة حضور المؤلف لحظة التأليف، تنقطع صلته بنصه متى انتهت عملية الطباعة والتوزيع، كما اعتقد بارت. بيد أن هذه اللحظة قد تمتد بحضور الجسد في وقت الطباعة الفردية، بما فيه لحظة الاستنساخ الضوئي، فيشعر المؤلف بلذة قارئ النص متى وازى ذاك بين اللحظتين الفوريتين، لحظة الكتابة ولحظة الطباعة. وقد يطيل المؤلف (الطبّاع) لحظة الحضور النصية بتوزيع مطبوعه على قرائه، أو بدرج سيرته على غلافه، وغيرهما من ترقيشات مشغله وعتباته (صور، اقتباسات، توجيهات، خطاطات). ستبلغ لذة المؤلف (نشوته الطباعية) مداها متى شارك نده المتلقي لحظة فجاءة المطبوع وبكارته. وتستطيع تقنية الاستنساخ الضوئي تعجيل هذه المشاركة الندية الرمزية.

يستعيد كتاب الاستنساخ كيفيات الكتاب المخطوط، وحيثيات الكتابة المتطابقة مع نبض الجسد، كلما عمل بنشوة حقيقته التناسخية (المثلية)، كما عملت مشاغل النحاتين العراقيين القدامى بنشوة نسخ تماثيل الملوك والكهنة والكتاب أنفسهم ( جوديا حاكم لجش 2400 قبل الميلاد مثلاً). أمر جوديا الملك بنحت عدد كبير من تماثيله المتشابهة ووزعها على معابد مدنه، تلبية لرؤيا دعته فيها الآلهة إلى تمثيل نفسه تأليهاً لها. إلا أن نشوة التمثيل انتهت إلى نقض صورها المتشابهة والخروج على سلطة الآلهة. لم تبق من صور الحاكم غير عدد قليل من التماثيل المقطوعة الرأس، وواحد يظهره ثابتاً في وضع الجلوس، وقد حُفرت على ظهره وحاشية ثوبه تفاصيل رؤياه.

 

يحدس قراء الكتاب المنسوخ على جهاز (الفوتو) طبيعة الاختلاف في النسخ المتشابهة، حين يقرنون رؤيا المرحلة التسعينية من القرن الماضي برؤيا جوديا المتأله، ورموز الكتابة الحجرية بالرموز المحفورة على الأكتاف العارية لمنتجي نصوص الاستنساخ. لقد أنتج التماثل الطباعي مفارقة نوعية بمخالفة المؤلفين رؤيا الإنتاج الأدبي المألوف، وخروجهم على طاعة حاكم رواق الطباعة الأكبر بإنتاج كتاب لا مثيل له في الرواق. ومهما كان عدد النسخ كبيراً، فلن يعثر قراء هذه الأيام إلا على كتاب (ممزق ونادر) في المكتبات الباقية قرب فجوة الانهيار الدراماتيكي لأحلام حاكم المرحلة المتأله.

 

إن اللحظة الطباعية الراهنة تستحضر تجارب كتاب الاستنساخ الأولى بمقدمات التحديث والاستباق، باعتبارها اختزالاً لحضور المؤلف في مطبوعه، قياساً إلى حضور الرسالة التي تلف شبكة الفراغ الإلكترونية حول العالم في برهة يتساوى فيها المؤلف والطباع والمتلقي في لقاء افتراضي واحد. لقد خرق كتاب الضوء التسعيني تقاليد الإنتاج التماثلي الكبير، وصنع لنفسه درباً وحيداً على الرغم من كثرة السالكين، حسب استعارة من طاغور. لقد أنتج المؤلفون كتاباً ضوئياً حملوه في طريقهم إلى التلال، التي تصرخ بوجه النجوم، كما تقول شذرة أخرى لطاغور.

 

أهديت لي كتب ضوئية تلقيتها بتهيب لأنها وصلتني بالطريقة التي يوزع فيها ساعي البريد الدرّاج الرسائل والطرود. أتذكر أول منشور قصصي أوصله لؤي حمزة عباس بعنوان (هواء معلب) خطه بيده ونسخه على جهاز الفوتو. (وأعتقد أن هذا المطبوع يؤرخ أول تجربة من نصوص الاستنساخ في العراق). بهذه الطريقة أنجزت جماعة (البصرة في القرن العشرين) سلسلة من قصصها القصيرة. ثم حققت جماعات كثيرة تجارب أخوية مماثلة (الأمد، الآن، نون، أور 2000) قبل أن تختط رؤيا (الطائر والجمجمة) مسار التحليق فوق رواق المؤسسة الرقابية الحاكمة حتى هبوطها على التلة المتاخمة لفجوة التغيير التاريخية في 2003.

يحق لمؤرخي الكتاب الضوئي أن يقترحوا لحظته المئوية في مسارب الفضاء الطباعي الجديد، وأن يستبقوا هذه اللحظة بتتويج التجارب الرائدة على سدة الحداثة والتغيير. يحق لذلك الكتاب أن يوحد حضوره في عنوان واحد هو (كتاب الضوء والأنواء) وراء العدد الكبير من عنوانات تلك المرحلة التي نذكر منها على سبيل المثال: (أسمال، اليد تكتشف، عكازة رامبو، خطوط متعامدة، إجراءات، قصائد ضد الريح، علامتي الفارقة، تمر العاصفة وتبقى الصحراء، الرجل الغريق، بيت اللعنة، طائر الآن، جياد لن تصل، الغياب العالي، تاريخ الموج، قلادة الأخطاء، ساعة الصفر، جنون من طراز رفيع، النقطة، إغريق، لحظة ينام الدلفين، لا أحد بانتظار أحد، حائط، جمرة قرار أبيض، مولد غراب، بيت العناكب، أيام الجنون والعسل، ذر التماثيل، مخلوقات ومدن....).

 

ولي أن ألحق كتابي (بصرياثا) الذي طبعته صاحبة (الأمد) حكمية جرار أول مرة على مطبعة صغيرة Mini)) في العام 1993 مع مجموعة من الكتب صغيرة الحجم، أهمها (المشهد الجديد في الشعر العراقي) و(المشهد الجديد في القصة العراقية) في العام 1992، بهذه العنوانات التي كان مقدراً لها أن تحلق فوق موقع الجمجمة بجناح طائر طليق.

برمجة وتصميم المرام