الأدب والعــالم قـــراءة اللحظــة الراهنـــة

الأدب والعــالم قـــراءة اللحظــة الراهنـــة

يستدعي السؤال حول واقع الأدب في ظرفنا الراهن النظر في طبيعة السؤال نفسه ، وهو يُستعاد في لحظات وجود فارقة ، في هذه المنطقة الخطرة من العالم. سؤال يتكرّر مؤكداً بعضاً من تجارب حياتنا التي لا تخلو من غرابة وهي تستعيد نمط العلاقة بين الأدب والعالم على نحو يتجدّد بتجدّد مشكلات كلٍّ منهما ، فلا الأدب اليوم هو أدب ما قبل نصف قرن من الزمان ولا العالم، ثمة متغيّرات واسعة بين صورتين وتصوّرين تبقى الصورة، على الرغم من المماثلة وسياستها، محكومة بإرادة الزمان.

ويظلُّ التصوّر محكوماً بمواجهة العالم إيهاماً وتخيّلاًـ مثلما هنالك تحولات خارج الصورة والتصوّر تغذّيهما وتتحكّم بمتغيراتهما، انكسارات وتراجعات، تجعل استعادة السؤال نوعاً من الضرورة لعلّ باباً يُفتح في الطريق لفهم ما حدث ويحدث في وقت تبدو فيه أسئلة الواقع أشدّ فاعلية وأعنف وقعاً وعجائبيّة من أسئلة الأدب، فما يُنتجه الواقع في لحظة إخبار موجزة يظلُّ بحاجة لزمن من التأمل والمراجعة، من الفحص والتدقيق، وصولاً لمساحة مفترضة من الفهم لإنتاج توازن بين حركتين وتصوّرين، لكن الواقع، بكل أسف، لن يتمهّل أو يلتفت، لن يضع نقطة آخر السطر، ولن يتوقف منتظراً ثمار الفكر والأدب.

إن سيلاً قاهراً على الجهة الأخرى يجرف كلَّ شيء، يغيّر مجريات الواقع وهو يتدخّل على نحو سافر بتحديد حياة بني الانسان ويتحكم بمصائرهم، ليس ثمة من يتريّث أو ينتظر فالقسوة في صلب الواقع تواصل مشيئتها. كلُّ رقبة مقطوعة توسّع الشقَّ وتفتح الهوّة بين دور المثقف وأدوار السكّين، معززةً صراعاً غير متوازن بين إرادتين، فالسكّين تمحو في لحظة عنف ما سعت إرادة التنوير لتأسيسه على امتداد قرن ونصف قرن من الزمان، حتى غدت أفعال التنوير نفسها محط أسئلة جديرة بالتأمل والمراجعة.

أستعيد، للإشارة، من بين حوادث كثيرة في زمن قصير، ما حدث لنصبي المعري وأم كلثوم، وما حاق بكنيسة مريم العذراء في مدينة الموصل، واحدة من أقدم مدن الحضارة في الشرق الأوسط، بما وراءها من إرادة لا تعوزها الصلابة والعماء في السعي لتحقيق أهدافها. ثمة غياب مزدوج يعيشه الكاتب اليوم، لا الأدب وحده، مع تراجع موقعه في عملية (البناء) وغياب قدرته على إدراك دوره النقدي وهو يعيش، كما يعيش أي فرد آخر، عالماً تهدّد السكّين فيه حبل السرة بين الثقافة والحياة. إنه مأزق هدم متصلٍ لم يبدأ مع ولادة الحركات المتشدّدة ولم يعبّر عن نفسه مع فتوّتهاـ استطاع أن يختزل مقولات الحريّة وسيادة القانون والدولة ومبادئ التعاقد الاجتماعي على وفق ما يدركه ويراه، حتى لم يعد المأزق في طبيعة علاقة الفكر بالعالم، تفسيراً أو تغييراً، فلا مكان في مهرجان القتل اليومي لماركس وفيورباخ، لا مكان لرفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق والكواكبي وطه حسين، بل في طبيعة المأزق، وهي تلتهم الحاضر عبر استحواذها على الماضي وتغيير مساراته لصالحها، ليتسنى لها تحقيق أعظم أهدافها: إعادة توجيه الحياة على وفق إيمانها بما تصنع بوصفه الوجه الأوحد للحقيقة، والطريق الأمثل للحياة. إن حق إدارة العالم الذي تعلنه السكّين في كلِّ مناسبة يضيّق من فسحة الأمل التي تراهن الثقافة عليها ويعمل الأدب على توسعتها حتى آخر قطرة حبر، لكن نزاعاً مثل هذا لا تكفي معه العودة لمنطق الالتزام والأدب الملتزم بصيغته السارترية وهو يجنّد الفعل الثقافي لصالح مشروع يؤمن به الكاتب ويواصل الانتاج دفاعاً عنه، كما يضع تصوراً في طبيعة الانتاج الأدبي وصلته بالحياة صاغه غابريل غارسيا ماركيز موضع تأمل وسؤال: "على الأديب الملتزم أن يكتب جيداً، ذلك هو التزامه". إذ تتعدّد الطرق في إدراك العلاقة بين الأدب والعالم في ضوء لحظتنا الراهنة، تتقاطع أحياناً وتفترق أحياناً أخرى في مواجهة إرادتي المثقف والسكّين، لكنهما معاً يقترحان سبلهما في مدّ الراهن بطاقته المحرّكة، طاقة السكين بمجمل مجازاتها وهي تعبّر عن نفسها بفجائعية مُحكمة، وطاقة الثقافة وهي تعمل على استعادة الحياة من كهف الماضي وأسر الظلام.

هل يبدو المثقف اليوم، والثقافة من بعده، معلّقين في الفراغ، بجملة د. فيصل درّاج، ينتظران زمناً يأتي ولا يأتي، مقتربين من حلم أرخميدس القديم، الذي يعد بتحريك الأرض، لو عثر على نقطة ارتكاز في الفضاء؟

وهل تبدو السكّين، بالمقابل، مجازاً واسع القدرة في التعبير عن اللحظة الراهنة وهي توحّد بين "الفكر والكفر ، بدليل أن حروفهما واحدة"؟

ليتحدّد دور المثقف في أفق تراجعٍ عام وتضيق مهماته في دوائره الأساس: مؤسسات بناء المعرفة وصياغة آليات التفكير، وتتقدّم، بالمقابل، مجازات السكّين خارج كلِّ دائرةٍ وحدّ، تجد متسعها في مجتمع تُرك طويلاً فريسةً للفاقة والجهل فتملكته آمال الخلاص الكلّي وامتدت فراديسه خارج المنطق والعقل والزمان

لا يخلو السؤال حول طبيعة العلاقة بين الأدب والواقع من قسر، فهو في أكثر حالاته وضوحاً يفرّق بينهما، يضع كلاً منهما على جهة ويسعى جاهداً للنظر في المسافة بينهما، مفكّراً في الصلات المستجدة بوصفها وقائع وإحالات، مغيّباً الفكرة الأساس التي لن يبتعد الأدب بموجبها عن الواقع مهما حاول النأي بنفسه والمضي في سماوات الفن والتجريب. ليس ثمة مهرب، هكذا تقول الفكرة، فالصلة قائمة بينهما والترابط حاصل ولا مجال لمسافة فاصلة، الأمر الذي يقترح زاوية أخرى للنظر لا تعتمد الفصل بقدر ما تتوجّه لمعالجة الأدب من منظور الواقع ومتغيراته، منشغلةً بالدور والوظيفة والمسار أكثر من انشغالها بالصلة، تواصلاً وانقطاعاً. أن يكون الأدب تخييلاً، وذلك هو تعريفه البنيوي الأول بتعبير تودوروف، لن يعفيه من أداء أولى مهماته في ممارسة أدوار تخيلية تكون في أحيان كثيرة أكثر فاعلية وعمقاً في ترجمة الواقع وإدراك ما يقع خلف حوادثه، فالتخييل لا يكتفي بالظاهرة، على الرغم من عنايته التفصيلية بها، ولا يقف عند حدود وقائعها، إن له ممكناته الخاصة التي لن يكون بموجبها "كلُّ تخييل أدباً"، بحسب تعبير تودوروف أيضاً، إذ إن للأدب قدرة على مساءلة الواقع الذي سيحافظ، في مجمل الأحوال، على دوره المرجعي. سيجعل الأدب، على هذا الأساس، سرود التاريخ أكثر مقبولية وهي تنتظم في فاعلية تخييل تؤدي السكّين فيها الدور المؤثر في توجيه العالم.
قبل أربعة عقود أو أقل كان عنف رجال البقر على الشاشة البيضاء الموجَّه في معظم الأحيان ضد الهنود الحمر، وأحياناً ضد بعضهم البعض أقسى ما يمكن أن تصادفه طفولتناـ لم نكن محظوظين إلى الدرجة التي ننام فيها مسكونين برعب أفلام هيتشكوك ـ لكننا اليوم نتنفس نوعاً مبتكراً من الرعب، حيّاً وساخناً، مع كلِّ خبر جديد تنقله الفضائيات، يكون أولادنا غالباً إلى جوارنا، بعضاً من متلقي المشهد في استعادته اليومية، وإن ابتعدوا عنّا سيغيبون في دوامة عنف أوسع، عنف شخصي ومميّز، تقدّمه ألعابهم الالكترونية بسخاء، إنهم يعيشون مع كلٍّ لحظة مشاهد رعب كاملة الصنعة، أسمع خلالها صفارات الانذار وإطلاقات رشاش متوالية وصرخات، دعهم يلعبون. إنها واحدة من مهمات الأدب: مساءلة السكّين وهي توغل عميقاً في لحم الواقع، وهي تغيّر، على نحو موجع، طبائعنا!.

برمجة وتصميم المرام