مفاتيح التفكير

مفاتيح التفكير

ونحن نقلب كتب الفلسفة والفكر والتاريخ، نجد فيها ما نعيشه اليوم فثمة من يقلب مفاهيمنا فيها ويغيرها، وثمة من يعتمدها من دون تغيير أو إضافة، ونجد أيضاً من يأخذ بأيدينا صوب منابع التفكير، ويقوّم ما أقدمنا عليه، ونجد فيها من يعيدنا إلى أوليات التفكير الفلسفي، كما لو أن الفكر لم ينتج بعدها شيئاً وأن الإنسانية توقفت عند تلك الأفكار. وهكذا يعيدك تقليب الكتب إلى تقليب الأزمنة والتواريخ والأمكنة والممالك والدهور، فتستنتج: كم هي حاجتنا إلى أن نعيد مرة ومرات، تقليب أفكارنا بما ينسجم وطبيعة ما نمر به من مراحل

فلم يعد العقل ينتج فقط، ولم يعد التفكير يخطئ تفكيراً من دون حق، وممارسة تستبدل بأخرى من دون دليل. فالعقل الإنساني، كما تتصوره الفلسفة، كيان يعمل من دون كلل أو تعطيل، ويمارس دوره على صياغة حديثة للوعي، وينبهنا إلى أن ما يجري من حولنا يدفعنا للتأمل كثيراً بما تثقفنا به، وجُبلنا على ممارسته. فالحياة تجري، وستظل تجري، وستجرف معها كل الأفكار التي لا تتطور. وعلينا أن نعمّق هذا المجرى، وإلاّ لا يصح أن ننتسب لحضارات غيّرت العالم ومدّت له يدُ التفكير العلمي والرياضي والفلسفي. إن ما يجري في الحياة يجعل الإنسان المعاصر متساوقاً مع ما ينتجه العلم والعقل والمعرفة، لا مع ما ينتجه التفكير الثابت المتحجر، فالبشرية كانت ولا تزال عجلة لا تتوقف عن الجريان.

أسوق هذه المقدمة البسيطة لإيضاح مسألتين: الأولى، هي اننا بجمود تفكيرنا نسمح لمن هو أكثر جموداً منا من أن يناقض تفكيرنا ويخطئنا، ومن هو أقل جموداً منا أن يتطور. المسألة الثانية أن جمود التفكير وبقاءه ضمن منظومة معرفية ثابتة لا يعني أنه أغلق الباب خلفه وقطع النور عن مكامن فلسفته، للأبد، ففي كل نفق ثمة مخرج من طين النفق نفسه ومادته، وأن جهل سبل الاتصال إلا بما تتيح له المعارف البسيطة من مجال، سيكون مؤقتاً، فليست عقول الآخرين أكثر استعداداً من عقولنا لقبول التطور.

كل هذا يستحضر فكرة وجود الإرهاب المنظم على أرضنا، وممثله البارز اليوم على مستوى المنطقة والعالم: القاعدة و"داعش"، ومنظمات إرهابية أخرى تتوالد كما لو كانت في بيئة متشابهة. والتفكير الأولي يقودنا إلى أن البيئة التي ظهرت منها هذه الأفكار التكفيرية، كما يشير العالم كله هي؛ منطقة الشرق الأوسط. فلماذا يقترن إرهاب القرن الحادي والعشرين بمنطقة الشرق الأوسط، بعدما كان يقترن في القرون الوسطى بأوروبا؟

لن أتحدث عن معنى البيئة "الوسطية" بين البيئات العالمية الأخرى، وتأثير ذلك في النشاط العقلي، فليس للمناخ إلا تأثير جزئي إزاء الذي يواجهه عالم اليوم من خطر الإرهاب، فقد مرت البشرية في القرون الوسطى وقبلها بنماذج أشد عداء للفكر الحر وللعلم وللتطور، وهي في بيئات مختلفة، والسبب يكمن كما أوضحت عناصر عصر النهضة ومن ثم عصر الأنوار؛ في أن الجمود الفكري لا ينتج إلا جموداً أشد منه. فترسبات الفكر الثابت تعود دائماً للأعماق الجامدة الصيانية، وليس إلى الممارسة العلمية المنفتحة على الحياة. وبالطبع لن يكون التمسك ببدايات التفكير الإنساني بقدر إلا تصورات أولية أنتجت الأساطير والأشعار، ولذلك تركز الكتب السماوية كلها على رفض الأساطير والشعر، كما ركزت الفلسفة الأفلاطونية على ذلك أيضاً، لأنها لا تتصل بالعلم. فالأديان تشكل مرحلة متقدمة للتفكير البشري، وانتقلت بالإنسان من المرحلة البدائية إلى المرحلة العقلية، ولكن هذه النقلة إن بقيت بحدود انتقالاتها الأولى؛ جمدت وتحجرت، وأعادت صياغة الأساطير والأشعار ثانية. ومن هنا جاءت أهمية التفاسير، واجتهادات العلماء والمفكرين، ومدارس الفلسفة، والتجربة، والعلم، والثقافة والعمل، لتنير ليس العقل الإنساني فقط، إنما لتجدد الأفكار الأولية. وفي مرحلة النهضة بدأ التجديد بالتلاقح مع العلم، ومع طرائق التفكير الفلسفي، حتى بدت الأديان في مرحلة متقدمة حتى على التفكير العلمي بخصوص الاهتمام بمقدرات الناس وحياتهم وأفكارهم السياسية والاِجتماعية. ترى كم نحن بحاجة الآن لتثوير مكونات عقولنا القديمة؟

برمجة وتصميم المرام