أجيال الخطر

أجيال الخطر

كثيراً ما ساعدت تقلبات الأيام، وهيمنة الطغاة، واحتراب الأخويات السياسية، على رسم صورة جديدة للولاء والانتماء وتقديس الرموز الطبقية والرؤوس المتحكّمة في أقدار الصغار والكبار من الأدباء الذين دفعهم اليأس إلى العزلة والبلاهة والهجرة الداخلية إلى صفوف المظلومين وإعداد النفس لتقبل أقسى الظروف. تحالفَ إخوان المدرسة مع عمال الجسد ورجال الشارع وموظفي الحكومة الصغار على تعظيم روح الانفصام والاغتراب والترحال بين التخوم والاندفاع نحو نهايات فاجعة في مقتبل العمر. وكم يشقّ على الأدباء الذين اختاروا السبل الصعبة، وارتقوا مساقط الحظّ العاثر، أن يكشفوا عن جذور انتمائهم المرضوض تحت سنابك الأخويات الأولى، أو انحنائهم المخزي لتأثير الجاذبيات السلطوية المتعاقبة، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً "أجيال الخطر" الذين نعنيهم في هذا المقال

نشأ الميلُ الأدبي المبكر لهؤلاء في خضم صعود أيديولوجي عنيف، وتحزب في صفوف نخب ممتازة، ثم تُرِك وحيداً في عراء تفرُّق الصفوف أو اندحارها. ولأنّ هذا الميل بلغ ذروة شبابه في ظروف انقطاع وانفصام مؤلمة، فإنه فقدَ القدرة على النقد والتحليل، وسلكَ اتجاهاً ذاتياً، انفعالياً في كتابة نصوصه. نشأ الأدب العراقي اجتماعياً، انتقادياً، واقعياً تجريبياً متمرداً، ثم انحدر في خطّ مترنّح ليستوي على خواطره الذاتية المملة، وموضوعاته الواقعية التسجيلية. وعندما اتسع الفراغ الفكري والاجتماعي، وانحلّت الروابط الأخوية، دخلَت المؤسسة الحكومية الراعية عنصراً حاسماً في اجتذاب الأدباء المنقطعين عن جذورهم، فكفلت معيشتهم وآنست غربتهم ويسّرت لهم فرص النشر والتوزيع والترجمة في دورها ومطابعها، وأشهرها المؤسسة الرسمية (دار الشؤون الثقافية) ومطابع الحكومة الثلاث (الحرية والجاحظ والرشيد.(

هيمنت المؤسسة على سوق النشر، وزاحمت الدور الأهلية في رأس مالها التجاري ودفعتها إلى الكساد والضمور

لقد خدمَ أدباء أجيال الخطر في مؤسسات وزارة الثقافة والإعلام وفي صحفها ومجلاتها، إلا قلّة حاولت تهريب نصوصها أو تهجيرها إلى مجلات عربية (الآداب، مواقف، شعر) على سبيل الاحتجاج والاعتزاز (نشر غائب طعمة فرمان روايته "خمسة أصوات" في دار الآداب العام 1967، وفي العام نفسه نشر ياسين حسين روايته "الصمت والحقيقة" في المكتبة العصرية، وتلاهما موسى كريدي وجليل القيسي فنشر الأول مجموعته "أصوات في المدينة" في المكتبة العصرية العام 1968، ونشر الثاني مجموعته: "صهيل المارة حول العالم" في دار النهار العام نفسه، ودور النشر هذه كلها في بيروت) ولجأ أدباء آخرون إلى دور نشر محلية صغيرة (الغري في النجف). وبعد هجرة النصوص جاءت هجرة الكتل الأدبية، ولم يتبق في البلاد إلا رعايا الأدب المحبوسون في قفص المؤسسة الحاكمة مع حاكميهم. صار انتقاض العلاقة مع السلطة الراعية تقليداً قهرياً دورياً ينغمر فيه أدباء ذوو مزاج تسلسلي تدميريّ، وغدا الشعور بالذنب والندم يعذّب الأدباء من دون استثناء، ويصطنع حالات من الاستقطاب الخفيّ بين مجموعة الرابحين والخاسرين بعد كلّ تقويض عنيف لبنية السلطة الحاكمة

استطاع أدباء أن يوثقوا هذه التحالفات القلقة والتضادات الخفية لمراحل السقوط البنيوية في كتب تقويضية نذكر منها (الموجة الصاخبة) لسامي مهدي و(الروح الحيّة) لفاضل العزاوي وكلاهما أرخ لحالة العناق القهري بين الأدب والسلطة، وانفكاك هذه العلاقة في مهب الرياح السياسية وأهواء الأدباء غير المستقرة. بينما قوّضت كتبٌ أخرى مثل (ثقافة العنف) لسلام عبود و(ثقافة الكاكي) لعباس خضر و(الدولة اللامثقفة) لكريم عبد و(خريف المثقف في العراق) لمحمد غازي الأخرس و(الحياة في الحامية الرومانية) لهادي الحسيني، أشكال العلاقة التعبوية في فترات الحروب، وسحق المؤسسة الأيديولوجية لروح الأديب واستلابها. إضافة إلى كتب أرّختْ لدولة القمع والإرهاب الفكري مثل (القسوة والصمت) لكنعان مكية و(دولة المنظمة السرية) لحسن العلوي و(دولة الإذاعة) لإبراهيم الزبيدي، وغيرها من المذكرات السياسية والسير التاريخية والمراجعات الحزبية

صدرت هذه الكتب في ذروة الصراع بين ذوات أدبية نرجسية أخضعت خصومها إلى تحليل عنيف في كواليس السقوط السياسي، كلما سنحت لها فرصة للهجوم عليهم. أمسَت الخصومات والمساجلات الصحفية الثنائية بين أقطاب الأدب جولات لصراع المجموعات الأدبية الهامشية مع سلطات سخّرت قدراتها الفتاكة لتحطيم خصومها دونما رحمة، ثم لصراع ضحايا السلطة أنفسهم ضدّ أنفسهم. أخلى النقدُ الإيجابي مجال الصراع إلى نوع من النقد المرتدّ على ذاته ضدّ ذاته، يلغيها ويمسح ملامحها؛ لا ليبنيها ويصحح هيكلها الضعيف، إنما ليعرضها ويشهّر بسوءاتها، في نوبة ارتداد مازوشية قاسية، كلما لاحت فرصةٌ لهيجان انفصاميّ عن الذات والزمن والتقاليد، وكسبٍ وتسليع صنميّ للثقافة

وبالفعل فقد استيقظت الأجيال على سوق ثقافية تعجّ بكل أنواع البضاعة المتروكة في محطات التاريخ العراقي دون ضمان توثيقي صحيح، واتفقت كلّ أنواع المذكرات السياسية على التئام خادع للجرح الأيديولوجي والتاريخي، وكل أنواع النقد الانفصامي للذات الأدبية الجريحة، بعد العام 2003. وبدلاً من محاولة تصنيف المراحل الأدبية لذاتنا "المقصرّة" وعزل سوءاتها نقدياً، اختلط الحابل بالنابل وبيع الغالي بسعر الرخيص، وساوم التاريخُ العنيف الروحَ المسالمة على مرضها وسقمها وبؤسها، في غياب "المسؤولية" و"الضمير". 

أغلق انهيار 2003 النهايات المفتوحة لتاريخ الطلائع الأدبية، وطمرت الأنقاض ملفات الأرشيف السريّ لأجيال الخطر، فتناهبت أوراقَه أيدي الباحثين عن الحقيقة المطموسة في سراديب المؤسسة المنهارة، قبل اندلاع الحرائق التي جاءت على ما تبقى فيها من أسماء وأسرار أخذت تتلوى كالثعابين في فجر الربيع البغدادي السافر. سيهجم "النيسانيون" على المتحف الوطني ودور الوثائق والمكتبة الوطنية، وسيتداول المنقّبون إضبارات الموتى، وستتسرب إلى الصحف تباعاً أوراق إضبارة شاعر الألم المازوخي بدر شاكر السياب، رسائله، أساطير حبه، ورؤيا نزوله إلى قاع المرض والتشرد. سيصعب علينا بعد أعوام تذكر السيرة المضطربة القصيرة لشاعر جيكور، بعد أن تهبط آخر علاماته الواقفة قرب مسقط رأسه (تمثاله) من قاعدتها وتعود إلى مسكنها لتستريح في (بلد الأعمى) ثم لتتحلل في عناصرها المائية التي ولدت منها

و مثلما عادت أجيال الخطر التي شاركت السياب المصير نفسه إلى أصولها الريفية والمدنية المتفرقة في مختلف أنحاء البلاد، ذهب جيل مرحلة الانهيار الدكتاتوري إلى زنزاناته في سجن أبي غريب، وغرف الأمن والمخابرات ليتنسم رائحة الحبس والتعذيب ويعيد إنتاج سنواته العجاف في نصوص استرجاعية لا تخلو من الحقد والاستشفاء النفسي والسياسي التعويضيين.

وهذه النصوص تؤلف الطبقة العليا لطبقة نصوص أجيال الخطر الأولى الذي يتصدرها السياب ورهطه.

تصدّر السياب جيل ((دار المعلمين العالية)) الشعري، وهو الجيل الذي أعقب جيل ((الطلائع)) القصصي، وكان هذان الجيلان يخبّان السير في مقدمة الأجيال التالية لهما ((الجيل الضائع، والجيل الستيني، وجيل الحرب)). ولطالما سمعنا في سكون الشوارع الممترسة خطوات أجيال الخطر هؤلاء تقرع سقف تاريخنا الأدبي بحماس البدايات الجريئة المغطاة بتراب القطائع المميتة الني حفرتها الروح العراقية المنتفضة على خنوعها وارتدادها بين حقبة وحقبة. أبصرت هذه الروح المتمردة وجهها في مرآة ((الصدمة والذهول)) وحطام كأس نخبها الدموي يتداوله الناهبون ومشعلو الحرائق، فألقت برماد ملفاتها إلى مياه دجلة الناحبة وأسرعت عائدة إلى أصولها. سنفتقد قصائد بدر المغيّبة ((خطاب إلى يزيد)) و((المجاعة)) و((حسناء الكوخ)) ومطولته ((بين الروح والجسد))، مثلما نفتقد مطولات محمود البريكان (المفقودة بعد مقتله العام 2002)، مع مطولات الجواهري ومنثورات حسين مردان، وخمريات حافظ جميل، ووجدانيات صفاء الحيدري وعبد القادر رشيد، وقصص عبد الرزاق الشيخ علي ومحمد روزنامجي ويحيى جواد، ويوميات مظفر النواب ورشدي العامل وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، ومقالات نوري ثابت، ورسوم الكاريكاتيرست غازي، ورُقَع هاشم الخطاط، ومعاجم الأب أنستاس الكرملي، تخطيطات فائق حسن وجواد سليم وخالد الرحال وأفلام عبد الهادي مبارك وكاميران حسني، إضافة إلى محاضر البرلمان ومراسيم البلاط الملكي، ومعها أوراق ويوميات وأزمنة ضائعة لأجيال الدولة العراقية، نجت من المحرقة وأدركت قطيعة التغيير.

سنأسف لغروب نهارات مطابع الصحف، ومساءات صالونات البيوت الأدبية، وبحوث الحداثة الجامعية.. سنحزن على انقضاء أعمار أجيال الخطر.

غير أننا لن نطلب المواساة من حفاري القبور ومشعلي الحرائق. الآن لا جدوى من الالتفات إلى مؤسسة ملفات الموتى، فقد أزاحت قطيعة الانهيار بقايا التراكم العمودي لإنتاج أجيال الخطر، وأظهرت للوجود على الجانب الآخر من طوبوغرافيا الانتشار الأفقي إنتاجاً جديداً لأجيال موزعة بين طرفي الحدود الجغرافية: أدباء مقيمون، وأدباء يملكون الخيار في استعمال هوياتهم العابرة للحدود.
نصوص مقيمة تحفر في وعيها المصدوم، ونصوص متحفزة لمدّ أعناقها من بلدان الجليد إلى مواقع النشأة الأولى الحارة.

مرجعيات وطنية تفقد أحقية ارتكازها تحت ضغط محيطات التنوع المذهبي والمعرفي، واتجاهات كوزموبوليتية تتغذى من الهجين اللغوي الأجنبي. لغات تموت، ولغات تنبثق

أقوام تتنفس هواء المدن المزدحمة وعدوانها الإرهابي، وأخرى تتنشق هواء الجبال الطليقة وتدافع عن سلامها.

برمجة وتصميم المرام