الوعي الثقافي والسياسة

الوعي الثقافي والسياسة


نقلا عن شبكة الاعلام العراقي 

مثلما غدا تحرير الوعي النقدي من الانفلاتات المزاجية والسقطات الانطباعية أمرا لازما لا حياد عنه في الخطاب النقدي العربي المعاصر، كذلك صار الخطاب الثقافي بعامة، بحاجة هو الآخر إلى أهمية الحياد عن السياسة بكل تعريفاتها ومدلولاتها السلبية والإيجابية معا.

وعلينا أن نتصور أن تحرير الوعي الثقافي عندنا بوصفه ميدانا من ميادين المعرفة الإنسانية هو الذي بإمكانه أن يبقينا بمنأى عن هيمنة السياسة وكوارثها..

وفي مراجعة بسيطة للأصل اللغوي للفظة السياسة يتبين أنه مصدر من فِعالة، ينطوي على معنى حسي مأخوذ من الفعل ساس يسيس فهو سائس، وساس الأمر سِياسة وقد ارتبطت مهنة السائس بالخيل وترويضها، فالسائس يسايس الجواد ويهادنه وقد يراوغه لكي يستميل وده فيكون طوع أمره.

ثم انتقلت اللفظة من معناها الحسي إلى المعنى المجازي غير المادي، وهو العلاقة بين حاكم ومحكوم والسلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية، التي تعني القدرة على جعل المحكوم يعمل أشياء أو لا يعمل سواء أراد أو لم يرد.

وهي أيضا الغاية التي تبرر الوسيلة في منطق المنافقين الانتهازيين، وهذا المعنى الأخير هو الذي لا يقوض المعنى الحسي ويقلبه حسب، بل انه أكثر خطرا وتهديدا كونه ينطوي على معان كثيرة عمادها الكذب كأساس واستراتيجية وأركانها المخاتلة أسلوبا والمماطلة منهجا وبلوغ المآرب بخيرها وشرها هدفا ووسيلة وغاية.

وقد تحولت السياسة في عصرنا هذا إلى علم قائم بذاته له شروطه وأساسياته وليس لأي أحد أن تنطبق عليه صفة السياسي أو يكون سياسيا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، إلا إذا امتلك مؤهلات خاصة ومزايا يتحمل هو بإرادته كل تبعاتها لاسيما تبعية وصف السياسة بأنها بؤرة الأفعال الشريرة ومرتع الأقوال المواربة والخادعة والمضللة.

والوعي الثقافي الحر والملتزم أبعد ما يكون عن السياسة، لأنه ما ان ينحرف باتجاهها حتى لا يكاد يغدو حرا ولا ملتزما معا.

ولطالما قيل ان السياسة لا تدخل شيئا إلا أفسدتهن فهي إذا تزامنت مع العلم حرفته عن وجهته الموضوعية وأماطت اللثام عن صرامته المنهجية.

وإذا ما رافقت الأدب قزمته وجعلته رهينا آنيا بمرحلته لتلغي عنه صفة الامتداد الإبداعي زمانيا ومكانيا ولتقولبه في خانة المحلية الضيقة.

وهكذا الحال مع سائر العلوم والفروع الإنسانية، ومنها الثقافة التي بدت في الآونة الأخيرة عندنا تنحرف باتجاه السياسة والايديولوجيا، أكثر مما تنزع نحو الاختلاف والتعدد باتجاه التغيير للفضاءات المعرفية والفكرية، ضمن زمن جديد له شروطه الخاصة في التلقي والتفسير.

ومن هنا صار حريا بنا أن نتمثل الوعي المثقف القادر على النهوض من دون الوقوع في شرك السياسة ومصالحها المريبة متمسكين بثوابت الثقافة ومسلماتها ومتخلصين من شرك الانقياد إلى أذيال السياسة ومتاهاتها وذلك من خلال تركيز الجهد على مراكز اهتمام جديدة، تتأقلم مع منظومة أو منظومات أخرى من مرجعيات شبكة القراءات المؤثرة ومن جماليات النصوص المبدعة أو من خلال" فحص التقديمات أو الصور التي تكوّنها الثقافة المستقبلِة (وهي الثقافة التي تترجم، وتقرأ، وتُفسّر) عن الثقافة - المصدر وهي الثقافة المنظورة، والمترجمة، والمستقبلة " كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه "الادب العام والمقارن/76"

ويبدو أن عند العديد منا رغبة مماثلة في أن نتسلح بنزعة التحرر من الخطابات السياسية والايديولوجية بكل تبعاتها المرجعية سواء أكانت تاريخية ام اجتماعية مع ضرورة حياد الفعل الثقافي عن الخطاب السياسي ب مزاجية  ومرحليته عبر الارتكان إلى الحس الواعي بزماننا ومكاننا العربي بتنويعاته ومكوناته، حتى لا نجد أنفسنا يوما وقد أصبحنا على الجانب الآخر من الثقافة، ضمن إطار بعيد عن أطرها الفلسفية ومنازعها الجمالية والفكرية مستعيضين عنها بكل ما هو مرعب ومؤدلج، وهذا ما كان قد أثار حفيظة المفكرين، ومنهم ميشيل فوكو الذي كان قد حذر في إطار تصديه لجينالوجيا المعرفة مما سماه "نذير شؤم".

ولا ننسى أن أهم إنجازات حضارتنا العربية الإسلامية، إنما تمت في ظل مناخات من الحرية الفكرية لتشهد الثقافة العربية انفتاحا تمثل في ترجمات عديد من الكتب المنقولة إلى العربية، التي حملت ثمار أهم ثقافات العصر آنذاك.

ولعل من اولى سمات توكيد الصفة الانفتاحية في صناعة الثقافة عندنا اليوم هي الطاقات الثقافية القادرة على التأثير في الرأي العام لإقناعه بالصائب أو لإعلامه بالخطأ بهدف التراجع عنه أولا ودفعا باتجاه الوحدة والخيار الديمقراطي آخرا، وبغية منح الآخرين خيار الوعي الفكري اللازم..

ويبدو أن مستقبل الثقافة العربية مرهون بخلاصها من تبعات النزعة العمياء إلى السياسة، تلك النزعة التي تحاول إدخالها في مناحي الحياة وميادينها كافة في زمنٍ تبدو فيه الثقافة أحوج إلى التفتّح الواثق المحقق للترابط الديالكتيكي بين الأبنية المجتمعية والمنظومة الحقوقية للمجتمع، التي تتشكل في مجموعها ثقافة الفرد، وفكره، وقيمه الاجتماعية.

ان جدلية العلاقة بين الثقافة ودرجة تطور البناء الاجتماعي هي التي تحتم وجود هذا الحاجز بين الثقافة من جهة والسياسة من جهة أخرى.

وقد لا أغالي اذا ما قلت ان هذا هو جوهر أزمة ثقافتنا العربية التي تنتظر منا اليوم أن نجعل التقدم التقني والاجتماعي سبيلا لبلوغ ثقافة جديدة علمية حرّة ديمقراطية، تتعايش مع البناء الاجتماعي المتقدم خارج أُطر الإلزام والقسر والتخويف والإرهاب.

بعبارة أخرى، أن نوحد الثقافة الوطنية في ثقافة علمية ديمقراطية حرّة، قائمة على أساس فكري متين سواء بطبيعة تكوينها التاريخي أو بمحتواها العربي الإنساني.

وان واحدة من أهم المساعي التي ينبغي أن نميز بها البناء الثقافي عندنا هو تحقيق ثقافة أصيلة جديدة وصاعقة كميّا وكيفيا في ظل مجتمع ديمقراطي غير منقوص ولا مقيد تتحقق فيه وحدة هويتنا العربية وثقافتنا وتصوراتنا ضمن مجتمع سلمي يوافق بين التيارات، ويستند إلى الموروث والمعاصر.

 

 

برمجة وتصميم المرام