من البصرة...الاعدادية المركزية تاريخ مبهر وعمارة خلابة

من البصرة...الاعدادية المركزية تاريخ مبهر وعمارة خلابة

الشيخ عبد الحافظ البغدادي الخزاعي

               

 البصرة مدينة العلم والعلماء, وهي من أوائل  المحافظات التي برزت في جانب التعلم الأكاديمي,  فقد تأسست في البصرة مدارس عثمانية وأجنبية مطلع القرن الماضي، لكنها ظلت بلا مدرسة تمنح الشهادة الإعدادية حتى تظافرت جهود الميسورين والتجار عام 1924، لبناء مدرسة إعدادية في مركز المحافظة,  أصبحت فيما بعد إعدادية العشار العتيدة ذات المعمار الشامخ والمتميز.

وساهم في تأسيسها يومذاك شخصيات وبيوتات بصرية معروفة مثل عائلة النقيب وباش أعيان والمنديل وغيرهم ممن غابوا من الذاكرة.

وقد تحدث ممن درس وتخرج من هذه الإعدادية, ثم أصبح مدرسا فيها , فقال : ان "تاريخ الإعدادية المركزية في محافظة البصرة – منطقة العشار.. من حيث تصاميمها وضعت من قبل أحد المهندسين البريطانيين، ولا تزال تلك المدرسة محتفظة بمظهرها القديم وتميزها برغم تدهور العملية التربوية في المدينة بعد أكثر من ثمانين عاماً"!..

وهذه الإعدادية تمثل أحد الصروح التعليمية القديمة والمتجددة، وقصة تأسيسها معبرة كثيرا، حيث أنشئت بتبرعات وجهاء مدينة  البصرة رغبة منهم في تعليم ابناء مدينتهم, في خطوة تعتبر متقدمة تفتقر لما يماثلها في الوقت الحاضر.

هؤلاء الوجهاء استقدموا مهندساً انكليزياً ترى لمساته واضحة حتى اليوم في طريقة تصميم المدرسة وأسلوب بنائها والمواد التي استخدمت فيها، وهي بنفس المواصفات للمدارس الانكليزية التي انشأت في بداية القرن العشرين, يظهر ان المهندس الانكليزي كان مراعيا لطبيعة الارض الزراعية وقربها من شط العرب، مما جعلها مرتفعة عن الأرض, ولا زالت عالية بعد مرور قرن من الزمان,  التفكير العملي الذي جعل المبنى مرتفعا عن الشارع، كي لا تتعرض للرطوبة في حالات دفن الشوارع وتبليطها, فبقيت المدرسة طيلة الفترة الطويلة التي مرت عليها لا تزال أعلى من شارع الإستقلال المحاذي لها.

وطيلة هذه الفترة تعاقب على المدرسة الكثير من الإدارات وكانت تضم الكثير من أبناء البصرة الذين إرتقوا مناصب إدارية وعلمية وسياسية في البلد تثير الفخر، وقد زار هذه المدرسة كثير من المغتربين الذين نالوا الشهادات العليا في بلدان العالم, وممن تعلموا المعلومة الأولى  في هذه المدرسة, وممن نالوا شهادات تخرج منها  وهم يأتون وكلهم شوق لرؤية المقعد الدراسي أو الرحلة التي كانوا يجلسون عليها أو الصف الذي درسوا فيه, رغم حصولهم على شهادات من جامعات أوربا  وأمريكا, وهؤلاء من الرواد ومن الخريجين في الخمسينيات والستينيات.

كما إن الإعدادية تحتفظ بالسجلات القديمة ووثائق طلبتها كاملة منذ تأسيسها حتى اليوم من السجل رقم 1 إلى سجل رقم 112 لعام 2010، وعندما يحال أي من الرعيل الأول وجيل الستينات والخمسينات على التقاعد يطلب منهم تأييد أو وثيقة.

يذكر إن الإدارة احتفظت بجميع سجلات القيد العام في بيوت المدرسين قبل أحداث العام 2003 بأيام وما زالت الإعدادية مصدرا للنتائج والمعلومات التي تطلب من قبل الوزارة لعدم وجودها لديهم. وبهذا أصبحت المدرسة ذات ارشيف يزود وزارة التربية أو التعليم العالي باي موضوع يتعلق بالطلاب الذين درسوا فيها  منذ تأسيسها لحد الآن..

وهناك كثير من الأسماء البارزة في هذه السجلات فعلى المستوى السياسي المعاصر تخرج من إعدادية العشار محافظ البصرة شلتاغ عبود، وكذلك عضو مجلس النواب في الكتلة المسيحية، وتاريخيا فإن بين خريجيها الرئيس السابق عبد السلام  محمد عارف حيث انتقل إليها كطالب عندما كان والده يعمل في سلك الجيش ويسكن محافظة البصرة، وكذلك عبد المجيد الهلالي الذي تبوأ منصب وزير الاقتصاد في حكومة عارف، إضافة إلى أسماء الكثير من الأدباء والفنانين.

ومن الذكريات الجميلة عن الكادر التعليمي في الإعدادية,  ان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري كان أحد مدرسي مادة اللغة العربية فيها، حيث تتلمذ على يديه عدد من أبناء البصرة في مادة اللغة العربية,  كما إن الشاعر بدر شاكر السياب كان أحد طلبتها المتفوقين وكان يدرس في القسم العلمي رغم انه مؤسس اتجاه أدبي حديث.

إضافة إلى الأستاذ محمود عبد الوهاب الكاتب وهو أحد خريجيها إلى جانب عمله فيها كمدرس للغة العربية ومعاون في الإدارة، والأستاذ محمد خضير القاص المعروف الذي كان أحد طلبتها، فضلا عن مئات من الأسماء الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية.

وبعد سقوط النظام وتراجع مجمل النشاطات التربوية في العراق, فان الوضع الجديد افرز تراجعاً كبيراً في الإعدادية المركزية  هذه المدرسة العريقة بسبب كثرة المدارس الأهلية الحديثة التي انتشرت بالبصرة, فبدأ تقل أهمية الإعدادية المركزية، فالكثير من الطلبة يلتحقون بعد إنهائهم الصف الخامس والمرحلتين العلمي والأدبي، إلى المدارس الأهلية وهم خيرة طلبتها المتفوقين ما أثر على مستوى إنجاز الإعدادية في تأهيل الطلبة المتفوقين علمياً ودراسياً، حيث يحسب ذلك الإنجاز لصالح المدارس الأهلية التي تستقطبهم لسنة دراسية واحدة فقط.

أن وجود الاعداديات المركزية القديمة مؤثر بصورة عامة في كثير من محافظات العراق ومنها العاصمة بغداد الموصل وبابل وكذلك البصرة وهي مدارس متميزة، ولا زالت الإعدادية المركزية هي المدرسة المتميزة بين المدارس الحكومية في المحافظة ولها قيمة مؤثرة في العراق بين مدارس المحافظات وعلى مستوى الوزارات من ناحية التقييم، لكننا نعترف أيضا بأن “ما أصاب مدارس العراق أصاب الاعدادية المركزية من عدم كون الطلبة بالمستوى المطلوب”.

واليوم مرت على الاعدادية منذ بناءها لحد الآن عشرة عقود تقريبا ومديرها الحالي هو كذلك أحد طلابها حيث تخرج منها ثم عاد مدرساً ثم مديراً،  ولو استقرأنا حالات الدراسة التي مرت بها هذه المدرسة نستطيع ملاحظة الفروق الشاسعة بين نوعية الطلبة في الفترة المنصرمة وخاصة طلاب الستينات والخمسينات، مقارنة بالوقت الحاضر.

ان الحقبة الزمنية التي مرت على هذا الصرح العلمي, تستحق ان يكون لها ارشيف خاص يطرح من خلاله تاريخ العلم والدراسة في محافظة البصرة...

ومطلوب من الجميع الحفاظ على هذه الخاصية في البناء، من الطابوق المستخدم الى الزخرفة وطريقة الإنشاءات الداخلية، كما ان هناك الكثير من اللمسات التراثية في أجزاء البناء الأساسي، حيث كانت هناك نية لأعمار المدرسة بطريقة تراثية بحيث تحافظ على هويتها ومعالمها التراثية ألا أن هذا المشروع لم ير النور لحد الآن.

  

 

 

 


 

 

 

 

برمجة وتصميم المرام