حركية الزمن في رواية وشم ناصع البياض للروائي علي لفته سعيد

حركية الزمن في رواية وشم ناصع البياض للروائي علي لفته سعيد

متابعات - ديوان محافظة البصرة 

منذ الصيرورة الأولى للأجناس الأدبية لم تنفك المرويات عن الفضاءات الزمنية، فالبناء الملحمي تعامل مع الزمن بطرائق متنوعة غيرت من البناء الفيزياوي له، ومع التحولات الشكلية وظهور فن الرواية شهدت الفضاءات الزمنية تحولات بنيوية عديدة، فالزمن في الرواية الكلاسيكية يختلف تماما عن الزمن في الرواية الجديدة ورواية ما بعد الحداثة، وهذا مرده التجريب الذي تتوق له الذات الإنسانية من جهة والتحولات الجمالية للتلقي من جهة أخرى.
وفي رواية وشم ناصع البياض للروائي علي لفته سعيد نلحظ أن معمارية النص في المبنى الحكائي للرواية تعاملت مع الزمن على وفق متبنيات الرواية الحديثة التي تلجأ الى تقانات التسريع والإبطاء الزمني من اجل ضرورات فنية وجمالية، فقد كانت تقانات الإبطاء كما يذكرها (جيرار جينت) تشتغل على نسقين أولهما المشهد الذي يتساوى فيه زمن السرد وزمن القصة، وقد استخدمه الروائي من اجل ضرورات فنية منها كشف الأبعاد الجسدية والنفسية والاجتماعية للشخصيات وكشف الأحداث ووصف الأمكنة وما إلى ذلك، ولو تابعنا الفصل الأول من الرواية الذي قسم إلى ثلاثة أقسام والموسوم (بداية نهار) نلحظ الاشتغال المشهدي كما في الصفحة الحادية عشرة «ظلوا يحاولون إتلاف الألم ممسكين بدقائق الليل بقبضة رخوة متوجسين من رفضه»، في هذا المقتطع لم يتحرك الزمن السردي بطرائقه الاختزالية بل تساوى مع زمن الحكاية، في حين وظف الروائي النسق الثاني وهو الوقفة في مبناه الحكائي من اجل إراحة القارئ من جهة ووصف تفاصيل المكان والشخصيات مع التأمل والتحليل من جهة أخرى، ولو تأملنا القسم الأول من الفصل الثاني الموسوم (صباح أول) نقرأ في الصفحة الثالثة والأربعين «وجه أكله الاصفرار واكتسحه الخوف ورسم الزمن مأساته على جيدها كوشم بدا ضبابيا» ، إن عملية وصف المرأة كشفت عن البعد الخارجي للجسد مثل «وجه أكله الاصفرار» والبعد النفسي كما يقول « أكتسحه الخوف» فضلا عن تحليل البناء القبلي للشخصية والذي لم يذكر في زمن السرد حينما يقول «رسم الزمن مأساته على جيدها كوشم ..»، والحال ذاته نتلمسه في القسم الثالث من الفصل الخامس الموسوم (ظهيرة بعيدة) في الصفحة الثلاثين بعد المائة حينما يقول»رآه من بعيد.. رجل كبير تطير عباءته في الريح .. له لحية تتسربل ببياض ناصع زاده وقارا .. خلفه هالة بيضاء تخرج منها خيوطا متساوية مشكلة دائرة كبيرة حول رأسه» ، ومن خلال بنية الوصف نكتشف البعد الجسدي والروحي للرجل الصالح، فهو كبير السن ذو لحية بيضاء ولكن الروائي أضفى عليه بعدا روحيا تخيليا، ففي الموروث الطقسي يوصف الأولياء والصالحين بأن لهم وجوه نورانية تعتليها هالات بيضاء، إن تقانة الوقف أعطت فسحة جمالية لساردية المتلقي من خلال توقف جريان الزمن والاستغراق في تصور التجسيم النوراني للشخصية بكل محمولاتها. 
أما تقانات التسريع الروائي على وفق الطروحات الحديثة، فقد أشتغلت على نسقين أيضا، أولهما الحذف، أي أن نحذف التفاصيل التي لا تتعالق مع الحدث المركزي للرواية لأنها ترهل النص وترهق القارئ كما نجد ذلك واضحا في العنوانات الرئيسة لفصول الرواية، فقد جاء الفصل الثاني تحت عنوان (صباح أول) في حين أن الفصل الثالث جاء تحت عنوان (نهار سابع) بينما جاء الفصل الرابع تحت عنوان (يوم تائه)، و من هنا ندرك أن الروائي عمد إلى حذف خمسة أيام من عنواناته لعدم احتوائها على تحولات سردية في بنية الحدث، كما عمد الروائي إلى حذف تفاصيل زمانية في بنية الفصول نفسها، ففي الفصل الثاني اختزل يومه في فترة الصباح ثم عمد في فصله الثالث إلى اختزال يومه في فترة النهار وهي فترة اعم واشمل من فترة الصباح ثم انتقل في فصله الرابع إلى مفردة يوم وهي فترة زمنية اعم واشمل من الفترتين السابقتين ليعود بعدها في فصله الخامس إلى عنونة جديدة هي (ظهيرة بعيدة)، ندرك معها أن الروائي يمتلك وعيا زمنيا ساعده في صياغة مبناه الحكائي، فقد شذبه من كل الأزمنة الميتة التي ترهل السرد وتجعل المتلقي يسرح خارج بنية الحكاية، وثانيهما نسق الخلاصة، أي أن تختزل عدة سنوات في جملة أو مشهد، إذ نلحظ في القسم الأول من الفصل الثاني الموسوم (صباح أول) استخدام نسق الخلاصة كما في الصفحة الثامنة والثلاثين حينما يقول «تساءل : إلى أين اذهب والحرب أعلنت ميلاد يومها الثالث؟ صوت كبيرهم يصرخ في إذنيه»، ومن خلال البنية السردية للجملة ندرك أن الحرب قامت منذ ثلاثة أيام لكن الروائي وهو يحرك الحفيد الثاني في رحلة البحث عن الجد تخلى عن اليومين الأوليين لبداية الحرب لعدم احتوائهما على أحداث مهمة تدفع بالقص إلى إمام من جهة أو عدم حاجته في الحفر عموديا في تشظيات الشخصية من جهة أخرى، وهي أشتغالة محمودة تقلل من ترهل النص بالاستطرادات غير المبررة التي تقع بها بعض الروايات، والحال ذاته تكرر في فصول أخرى من الرواية كما نلحظ ذلك في القسم الأول من الفصل الثالث الموسوم (نهار سابع) حينما يقول في الصفحة الرابعة والستين «هاهو الأسبوع الأول يمضي من عمر القصف ..الحرب.. الدمار»، فالروائي هنا اختزل الأيام السبعة المتشابهة في عنفها بسبب الحرب في جملة واحدة أراحت المتلقي من استطرادات قد تكون متشابهة ومكرورة.
وشم ناصع البياض رواية أصوات متنوعة، عمد كاتبها في رحلة البحث عن الجد الحكيم إلى توظيف حركية الزمن من اجل تفعيل ساردية المتلقي الذي وجد نفسه قبالة أصوات مدوية لقنابل وصواريخ حرب مجنونة هشمت كل شيء بما في ذلك الزمن الذي يحيط بالشخصيات، ليعمل الروائي على أعادة الحياة له من جديد على وفق التقانات التي ورد ذكرها.

برمجة وتصميم المرام