الدراما الباردة.. العرضحالجي أنموذجا

الدراما الباردة.. العرضحالجي أنموذجا

متابعات - ديوان محافظة البصرة 

تنطلق الدراما التلفزيونية عادة، من الاهتمام المجتمعي الذي يتلخص بهموم بعينها، غالبا ما تكون معاصرة وحيوية وتشتغل في وجدان وعقل وروح الناس. وخلاصة القول في هذا المضمار انها تضع المتلقي المحلي اولا في صميم توجهها. ومن ثم يأتي المتلقي الاخر البعيد عن خارطة توجهها، وصولا الى القيم الفنية والتقنية للدراما، اسوق هذه المقدمة للحديث عن اهمية وموقع مسلسل – العرضحالجي-في رؤيتنا الاجتماعية وتلقينا لها بوصفها واحدة من الاعمال السنوية التي تنتجها التلفزيونات في رمضان. 
وقد شاهد المتابعون في العراق – جلهم من العوائل العراقية-حلقات مسلسل « العرضحالجي» بأحداثه المتكررة وايقاعه الباهت، في رؤية بسيطة تعزز فكرة البطل المثالي الذي يشط عن الواقع وصولا الى الطفل الذي يتنبأ بالأحداث القادمة دون ان يراها!!، هذه وغيرها من الافكار المتشائمة التي لم يجد قاسم الملاك، مؤلف العمل بديلا عنها لقناعته الكلاسيكية القديمة بان الدراما العراقية تستوعب المشاهد الدرامية حتى وان كانت حشوا زائدا وفاقدا للقيمة. أما موضوع زج قصار القامة « الصورة القزمية المفتعلة» لعدد من الممثلين لأغراض غير منطقية في مشاهد المسلسل، تشي بان الافتعال يستدرج الكوميديا لأغراض السخرية من المتلقي نفسه، وبالتالي يفشل المشهد الذي يغرّد خارج سرب الموضوعية الدرامية إن صح التعبير. 
فمنذ الحلقة الثالثة من المسلسل، تأخذ الاحداث منحى ساذجا وكان المؤلف يخاطب العقل العراقي بصورته المستهلكة وغير العميقة. وكأنه مجتمع غير معني بهموم وتطلعات اجتماعية ذات جدل واسع، تبدأ من اشكالات الهوية، ولا تنتهي عند تخوم الارهاب الوحشي المقيت الذي عانى منه العراقيون وذاقوا ويلاته. تأخذ هذه الاحداث منحى يشعرك بان – المُخاطَب تلاميذ رياض الاطفال-وليس الجمهور الواسع العريض الذي ينتظر من الدراما ماهو اكبر من تطلعات قاسم الملاك ذي التاريخ الفني الجميل العالق في ذهنية المتلقي العراقي، ولن نتساءل هنا عن دور الرقابة الفنية والفكرية لان المسلسل – مسلسل العرضحالجي -من انتاج قناة غير حكومية لا تخضع لمحددات وضوابط الانتاج الدرامي الرسمي. على الرغم من هذا، كان على مثل هذه القنوات، ان تعمل على نوع من الضوابط يكبح جماح التأليف السيء والرؤيا الاخراجية غير الناضجة، بغياب واضح للنقد المنهجي والموضوعي اللاذع لنكوص الدراما التي ظهرت بهذه الصورة غير المحببة !! ولم تشفع لها المقدمة، او – التتر-الممزوج بصوت حاتم العراقي بأداء مميز وجميل. 
ان واحدة من مبررات الغرابة التي ظهر عليها هذا المسلسل، هي عدم الرؤيا بالمقارنة مع الاعمال العربية والخليجية، بل وحتى الاعمال العراقية الدرامية الناضجة. ومثال على ذلك «تحت موسى الحلاق» او مسلسل «النسر وعيون المدينة»، وصولا الى مسلسل «غرباء» الذي عرض في تسعينيات القرن الماضي، هذه الاعمال، لابد لها ان تكون نموذجا دراميا يحتذى به، لا ان تنحدر الدراما الى الصورة النمطية البسيطة وغير المجدية والتي تؤسس لخطاب درامي غير مسؤول وغير منضبط وغير نافع بالمحصلة النهائية. 
فهل يعقل ان نختزل الدراما العراقية بـ (تنطيط اقزام) وملابس مشوهة وحوارات تعمل على تتفيه فكرة الدراما وجدواها ونساء تبرز مفاتنها وغناء وطرب بلا معنى؟؟. مستحضرين في ذلك تشويه كلمات ارث الاغنية العراقية بأداء مشوه وغير جميل من قبل الشخصيات التي ادى ادوارها باسم البغدادي واحسان دعدوش بطريقة نشاز تثير صورة البلاهة أكثر من اثارتها لصورة الابداع الفني الاصيل. الاغنية العراقية التي لفت تطورها انظار المتلقي العربي لعقود طويلة، وقد نتج عنها فضاء فني عميق الجذور على مستوى الكلمات والالحان والاداء. لقد فشل المسلسل في ان يقترب من المعالجة الفنية لأغنيات التراث مثلما عمل عليه في أحد الافلام المصرية الفنان المصري محمد سعد من خلال فيلمه المعروف «اللمبي» وهو يحور واحدة من اغنيات السيدة ام كلثوم «حب ايه»، بمعالجة فنية تثير الاعجاب وتشير الى نوع من مزج الفن الاصيل بالدعابة واستثمار الشائع من موسيقى الطرب الى مشهد من مشاهد الضرورات الفنية التي تحتاجها الدراما في ذلك الفلم. فمالذي فعله احسان دعدوش وباسم البغدادي حيال الارث الموسيقي والغنائي العراقي الرفيع، غير التهديم بمعاول غير واعية لقيمة هذا التراث وقيمة الحفاظ عليه والارتقاء به؟؟ 
إذ يطرأ سؤال هنا عن مدى امكانيات استثمار الاموال في مثل هذه المسلسلات، مقارنة بما تصرفه القنوات الفضائية الاخرى – المصرية والخليجية – على الرغم من شحة انتاج الدراما العراقية وعزوف الدولة عن تعزيز واقعها بأعمال كبرى او مشاريع درامية مدروسة وناضجة ومفيدة. وبتقديري الشخصي البسيط ان هذا الامر لا يمكن ان يكون سببا رئيسا في السعي لتشويه الدراما التلفزيونية التي تنتظرها العائلة العراقية بفارغ صبر في كل عام. 
ومن الجدير بالذكر، ان متابعة ميدانية قمنا بها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وموقع – يوتيوب-تفيد بان أكثر من 90% من المشاهدين ترى في هذا المسلسل تراجعا ونكوصا في الدراما الوطنية -الدراما العراقية ذات التاريخ المتوهج واللامع-، والغريب في هذا الموضوع، ان مؤلف – العرضحالجي-يفيد بعد عرض المسلسل لأكثر من برنامج تلفزيوني، ان الدافع لإنتاج مثل هذا المسلسل او من محرضات انتاجه، هو اعجابه الشخصي بأعمال عربية كان لها الاثر في تكوينه وتحريضه على الانتاج والكتابة والتمثيل للدراما التلفزيونية. الرؤية الفنية لمسلسلات راسخة ومهمة – عربية على وجه التحديد-مثل مسلسلات وافلام: الملك فاروق، وظهور الاسلام وغيرها من الاعمال. فهل يعقل ان التاثر ينتج مثل هذا التراجع الدرامي؟؟ 
هل يعقل ان يكون هدف الدراما العراقية خارج هموم وتطلعات المتلقي العراقي الذي يرزح تحت وطأة الارهاب والفوضى السياسية والفكرية في بلد يمتد تاريخه لآلاف السنين، ويمتلك موروثا لا يضاهيه سوى بعض قليل من حضارات كان متفوقا عليها لحقب تاريخية طويلة؟؟ 
لا علاقة للكوميديا بما حدث في مسلسل العرضحالجي، ولا علاقة لفنون التلفزيون بالحشو الذي جرى زجه في هذه الخلطة التي تنتظم تحت عنوان المسلسل التلفزيوني. انها ثقافة الاستهلاك غير المنضبط في ثقافتنا وفنوننا، وهي بحاجة ماسة الى فحصها وتسليط الضوء على ظواهرها السلبية والايجابية على حد سواء.

 
برمجة وتصميم المرام